عالقة في الرابعِ و العشرين






أنه يوم من أيام حياتي ، سائرة و غارقة في التفكير ، دخلتُ إلىٰ المبنى بعد أن كدتُ أن استصدم بالباب ، بحركة آلية كبست على زر المصعد ، فُتحت أبواب المصعد على مصراعيها كأيدي أم ترحب بابنها ، وأنا بالداخل توقف المصعد عند الطابق الخامس عشر ، دخل رجل يبدو أنه في الخمسينات من عمره ، لا تعابير في وجه ، يرتدي تيكسدو سوداء ، ألقى التحية علي ، سألته : الطابق المطلوب ؟ ، أجاب : الطابق الأول ، قلت مازحة: يبدو أنك ستأتي معي في رحلة  إلى الطابق الثلاثين .. لم يجب و سمر بصره على باب المصعد ، وبينما نحن صاعدون اهتز  المصعد فجأة و انطفأت الأضواء وتوقف عند الطابق الرابع والعشرون ، نظرت إلى الرجل الواقف على يميني وقلت لنفسي : لا يبدو هذا الرجل جدير بالثقة والآن أنا عالقة معه ! 
...

حاولت أن اكتشف المشكلة ، كبست على جميع الأزرار التي في اللوحة ، ضربت الباب، ركلته حاولت أن أفتحه بأصابعي الهزيلة  .. لقد قاتلت ببسالة .. صرخت في وجهه :
أنت ، لما لا تساعدني !!! مسمرٌ بصرك نحو الباب ، أتحسب أنه سيفتح بنفسه أم ماذا ؟!!! 
-قال : لا فائدة من أساليبك .. لقد علمت أنها لن تنجح .
على الأقل لي شرف المحاولة ! 
جهود ضائعة ..
و بعدها صمت ، ولم ينبس ببنت شقة . 


... 

تراجعت خطوتين إلى الوراء واتكأت على جدار المصعد .. تنهدت وقلت : ماذا سنفعل ؟ 
لا تتحدثي وكأن هذا الوضع مشكلتنا ! أنها مشكلتك !!! 
يا رجل أنت عالق معي هنا ! 
أيبدو لك أني رجل سيكون عالق في الرابعة والعشرين ؟ 
ماذا تقصد نحن معاً ! في المصعد ! جميعنا عالق في طابقٍ ما أو مرحلة ما إذا كنت تقصد هذا ؟ 
قهقهة الرجل ، أنا لست عالق ! أنا جوّال ! 
يبدو أنك كنت محظوظاً بولادتك لعائلة برجوازية غنية ! الكثير من الموارد والمعارف ؟ 
اوووه فتاة شابة بروليتارية  ! 
واو ، لقد علمت أنك برجوازي لئيم ! 
وأنا علمت أنك فتاة من الطبقة الكادحة ! قال مقهقهاً 
ألقيت نظرة خاطفة على ما أرتديه ، وقلت بتحدي :
لماذا يا ترى يولد في هذه الحياة أشخاص محظوظين و أشخاص ذَا حظ عاثر ؟ 
أن الحياة لا معنى لها .. هكذا فوضوية و عبثية .
يبدو أنك عبثي متشاءم !يارجل أنك تملك مصادر الحياة الرغيدة ! 
وأنتِ ما رأيك في هذا ؟ أم أنتِ من المؤمنين بالحكمة الألهية ؟ 
نعم ، أحب أن أعتقد أن لهذه الحياة معنى جوهري وسامي ، أنه يمنحني السلام! 
أبهذا تهونين على نفسك آفة أنك من الطبقة البروليتارية ؟ 
يبدو أنك مزيج نتن من أخلاق السادة و البرجوازية و العبثية ! 
لا نستطيع إنكار أفكار نيتشه عن الأخلاق ! من وجهة نظري لقد كان مصيباً 
لكنه لم يجيب على السؤال الذي أثاره ! كيف لنا خلق قيم أخلاقية جديدة ؟
سؤال وجيه ! 
أنه من مصلحتي قلب كل المفاهيم والقيم و اسقاطك أيها البرجوازي ! نيتشه كان ليكون مفيداً لو أجاب على سؤاله ! 
تريدين مجتمع يناسبك ؟ الاشتراكية تناسب توجهك ، قال بخبث 
أنا فقط أريد مجتمع عادل ! 
يوتوبيا !! الحلم بالمدينة الفاضلة ! 
نستطيع تحقيق ذلك ولو قليلاً ، يا رجل ! القليل من الذكاء و الشجاعة 
والغباء أيضاً ! قال ضاحكاً ، 
أنه من المضني أن تبحث ولا تجد ! و تعمل ولا تجني ! و أن تُستغل و يُمن عليك ! أن تتألم ويستخف بك! كيف لك أن تعيش مع حقيقة أنك وحش ؟ وكيف لي أن أعيش مع حقيقة أني ضحية عاجزة ؟ 
.. 

وعلى حين غرة .. عاد التيار الكهربائي ، و عاد المصعد إلى عمله المنِهك في الهبوط و الصعود ، صمت الرجل وعاد إلى وضعه السابق  ، نزلنا جميعاً إلى الطابق الأول وكأن رغبتي في الصعود هبطت إلى تحت الصفر ، خرجنا جميعاً من الباب ، وانصرف الكل إلى شقائه كأن شيء لم يكن ! وكأن تلك المحادثة حدثت على هامش الزمن ! 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لن أبحث .. هكذا قررت

تباعد